ابن عبدالصبور

Author

Jul 1, 2025

Published

العربية

Language

التكفير

مفهوم التكفير لغويًا وشرعيًا، ويبين وجوده في الأديان والأيديولوجيات، مع توضيح موقف الإسلام المعتدل منه بشروط واضحة، لتصحيح المفاهيم الخاطئة.

21 min read

التكفير

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد...

فالتكفير من أعقد المسائل حديثًا وقديمًا، وأصبح شيئًا لا يُعاب إلا على أهل الإسلام! ويا للعجب!

المعنى اللغوي والاصطلاحي

بما أن التكفير هو رميٌ لأحدهم بتهمة الكفر، إذًا لابد أن نعرف الكفر لغة:

الكفر لغةً: هو التغطية والستر، فالزارع الذي يغطي الأرض بالنبات هو "كافر" (على وزن فاعل) لغةً، وكل مغطٍّ لشيءٍ فهو كافر لذلك الشيء إذا غطّاه، كما جاء في لسان العرب.

ورد فيه: ومن هذا المعنى اللغوي اشتُقَّ المعنى الشرعي للكفر، حيث يُقصد به الجحود أو الإنكار، كمن يكفر بنعمة الله أو ينكرها.

فالمعنى اللغوي أن الكافر بالشيء أي مغطيه ومنكره، ومنها جاءت جملة "كفرتُ بك". هذا هو المعنى اللغوي.

التعريف الاصطلاحي

وأما الاصطلاحي فيختلف؛ عندنا أكثر من تعريف اصطلاحي للتكفير:

  1. أنه رمي لأحدهم بالخروج من الدين (أيًّا كان)، سواء كان فيه ثم خرج، أو أنه وُلد خارج هذا الدين أصلًا.
  2. الخروج عن أصول أي أيديولوجيا أو نظام يُوالى ويُعادى عليه.

(التكفير بين الأيديولوجيات)

والذي نرتضيه هو التعريف الثاني؛ لأنه أعم وأشمل وأكثر واقعية. فالغرب العلماني المهمش للأديان أيضًا يكفّر من يخرج عن أصول أيديولوجيته، بل ويقيم عليه "حد الردة".

خذ دليلًا عمليًّا: اذهب إلى أي دولة غربية، واحرق علم الشواذ، وقل عنهم "منحرفين"، أو ارفع يدك كشعار النازي في ألمانيا، ببساطة سيتم تكفيرك ورميك بأنك متخلف، ورجعي، وبغيض، وعنصري، وكل هذه الأوصاف = التكفير، بل وسيتم قمعك، إما حبسًا وتنكيلًا، أو نفيًا على أقل تقدير.

فالتكفير إذًا غير خاص بالمسلمين فقط، بل هو في كل دين وأيديولوجيا ذات ثقل في قلب معتنقيها.

وكما أننا نكفّر الغرب الملحد، فهم يكفّروننا بعباراتهم مثل: "عنصريين"، و"متطرفين"، و"لديهم رهاب المثليين"، إلخ...

ولذا تجد أن الدول الغربية تحارب كذلك من تكفّرهم (الذين خرجوا عن أصول العلمانية) مثل: أفغانستان الإسلامية، أو الاتحاد السوفييتي الشيوعي سابقًا.

وعلى هذا النسق، فكل الأيديولوجيات، أو لنقل: الأديان بالمعنى الواسع، تكفّر وتوالي وتعادي بناءً على الانتماء.

ولذلك، فالليبرالية الغربية التي تقول: "لا نفرّق بناءً على العِرق أو الدين أو... إلخ"، لو صدقت، فببساطة لأنها لا تقوم من منطلق هذه الأشياء، وليست من أساسياتها. ولكنها تكفّر وتلعن وتقيم الحد على كل كافر بأساسيات مذهبها، مثل الشيوعيين والإسلاميين. بل يكفّر اليمين اليسار، ويكفّر اليسار اليمين، وكذلك قمع السوفييت أي مظهرٍ للدين؛ لأنه ينافي أساسيات إلحادهم.

أساس التكفير

التكفير يقوم أساسًا على مناقضة أساس الأيديولوجيا. فعندما يكون الإيمان في الإسلام أساساته ثلاث: الاعتقاد، والقول، والعمل، فأي إنكار لأحدها دون موانع، فهو كفر.

والأيديولوجيا التي لا تتضمن "العمل"، لا تكفّر من لا يعمل بمعتقده. والتي لا يتضمن أساسها "القول"، لا تكفّر من لا يقول معتقده... إلخ.

التكفير المنضبط هو: تكفير من جحد الأسس، أو واحدًا منها، أو امتنع عن فعل الأسس أو أحدها قطعًا وأبدًا، أو نطق عن عمدٍ كلامًا ضد الأسس.

وهذا في كل الأيديولوجيات بشكل عام.

ولذلك، فلا سبيل من الإفلات من تكفير الخصم لك، وتكفيرك له، إلا إذا أثبتَّ خطأ دينه أو العكس. إذ إن كل صاحب معتقد راسخ في قلبه يكفّر الذي لا يؤمن به أو يضاده، كما تقدم.

شروط التكفير في الإسلام

شرطان:

  1. وجود ناقض.
  2. انتفاء الموانع.

الناقض: كالشرك بالله، أو من اعتقد أن غير هدي النبي ﷺ أكمل من هديه، أو من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم الشفاعة... إلخ.

الموانع أربعة:

  1. الجهل:
    إذا كان الرجل جاهلًا بحكم الشرع، أو لم تبلغه الدعوة، أو لم يفهم الحق فهمًا تامًّا، فإنه لا يُكفَّر حتى تقوم عليه الحجة، ويُبيَّن له الحق بيانًا واضحًا.
    قال تعالى:
    "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء: 15).
  2. الخطأ:
    إذا وقع الرجل في خطأ أو زلل من غير قصد، كأن يسب الدين أو يخطئ في الفتوى من غير تعمُّد، فإنه لا يُكفَّر؛ لأن الخطأ غير المقصود معفوٌّ عنه.
    قال تعالى:
    "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" (البقرة: 286).
  3. الإكراه:
    إذا أُكره الرجل على قول الكفر أو فعله، وخاف على نفسه من القتل أو الأذى الشديد، فإنه لا يُكفَّر؛ لأن الإكراه يسقط التكليف.
    قال تعالى:
    "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ" (النحل: 106).
  4. التأويل:
    إذا تأوَّل الرجل تأويلًا له وجه في اللغة أو الشرع، واجتهد في طلب الحق، فإنه لا يُكفَّر؛ لأن المجتهد المخطئ له أجر واحد.
    أما التأويل الباطل الذي لا دليل عليه، كتأويلات الباطنية، فإنه لا يُعتبر عذرًا.

والحكم بتكفير شخصٍ معيّن لا يكون للعامة، وإنما لأهل العلم.

حد الردة في الإسلام

له شروط:

  1. أن يثبت الناقض.
  2. أن تنتفي الموانع.
  3. أن يُعرَف بها (فلو كان متخفيًا ويعلن الإسلام، لا يُقتل).
  4. لو كان صاحب شبهة، يُردّ عليه، فإن أبى، يُقتل.

مدة الاستتابة ثلاثة أيام.

قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (9/18):

"المرتد لا يُقتل حتى يُستتاب ثلاثًا. هذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر، وعلي، وعطاء، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي... لأن الردة إنما تكون لشبهة، ولا تزول في الحال، فوجب أن يُنتظر مدة يرتئي فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام."

حد الردة في الأيديولوجيات الأخرى

حد الردة ضروري في كل دين ومعتقد وأيديولوجيا:

الدولة العلمانية: من يخرج عن أسسها يُنكَّل به.

الدولة الإسلامية: من يخرج عن أسسها يكون محفزًا لغيره على الردة والجهر بها، إذا لم يُعاقب ويُردَع.

وفي ذلك مفسدتان:

  1. ضياع دين الشباب وآخرتهم، فالذي يسرق المال أو يقتل، أهون من المرتد، إذ هو يحفّز غيره (بإعلانه الكفر أو معرفته به) على الكفر، وضياع الآخرة، والخلود في جهنم.
  2. التحريض على قلب نظام الدولة القائم على الكتاب والسنة.

فماذا يُنتظر إن كثر المرتدون في بلاد الإسلام؟ الحدّ رادع وكافٍ – بحمد الله – عن كل تلك المفاسد، ولا عزاء للمنبطحين!

وكما رأيت: شروط التكفير صعبة، والأعذار كثيرة؛ لأن الإسلام يحرّم دم الإنسان إلا عند ظروف معينة.

وكل من يرمي أهل السنة بالتشدد والتكفير غير المبرر، فهو: إما أحمق جاهل، أو مدلس.

أما في النصرانية:

فيكفي هذا النص: العبرانيين 28:10–30 (الكتاب المقدس – AVD):

"مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى، فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ شُهُودٍ، يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ."

وفي اليهودية:

كل كافر رخيص الدم، حتى لو لم يكن محاربًا:

"ملعونٌ مَن يعمل عمل الرب برخاء، وملعونٌ مَن يمنع سيفه عن الدم."

(فالإرهاب بحجة التكفير طافح في التوراة).

أما العلمانية:

فيها "تكفير وحد للردة" بدون شروط ولا موانع، كما بيّنا.

والإلحاد:

عدَمي، كل شيء فيه مباح، حتى شوي الناس أحياء وأكلهم بعدها إن خالفوا مصلحته، وهو ما يُعرف بالداروينية الاجتماعية.

الخاتمة

في النهاية: يجب أن يفهم المسلمون أن التكفير وحد الردة موجودان في كل دين ومعتقد وأيديولوجيا، فلا يستحي أن دينه به تكفير وحد للردة.

ويعلم أن دينه معتدل، فلا يُكفّر بلا سبب، ولا يُبرر قتل الكافر بلا سبب.

فالعزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، ولو كره الكافرون.
والصلاة والسلام على أشرف الخلق، سيد الناس، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المراجع

  • - لسان العرب، لابن منظور
  • - الكتاب المقدس (AVD)
  • - العلمانية طاعون العصر، كشف المصطلح وفضح الدلالة – د. سامي عامري
  • - المغني – لابن قدامة
Share Article:
ا

ابن عبدالصبور

Article Author