مبحث دعوي (٢)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا خلاصة كتاب كيف ينتشر السلوك مع
ملاحظات و تعليقات
العدوى البسيطة والمعقدة: يبين الكاتب أن انتشار المعلومات (كالعدوى) ينتشر بسرعة وانتشار السلوك ينتشر ببطء ويتطلب دعماً اجتماعياً أكبر. السلوك لا ينتشر بسرعة مثل المعلومة؛ لأنه يحتاج غالباً إلى تعزيز من أكثر من شخص. العدوى البسيطة هي رؤية أو سماع السلوكيات أو المعلومات من شخص واحد فقط لكي "تلتقطها" أو تتأثر بها، مثل الإشاعات أو المعلومات في مواقع التواصل. العدوى المعقدة هي سماع أو رؤية أو التأثر بالسلوكيات أو المعلومات من عدة أشخاص، أو تلقي دعم متكرر حتى تتبناها فعلياً، مثل الالتزام بالدين أو اعتناق أفكار سياسية واجتماعية.
الشبكات الاجتماعية: تطرّق الكاتب للشبكات الاجتماعية كوسيلة لانتشار السلوك، وكيف أن الشبكات التي فيها ترابط قوي (الأصدقاء أو العائلة...) أكثر فاعلية في انتشار السلوك من الشبكات ذات الترابط الضعيف (غالباً يكون تواجدهم بعيداً، أي يسكنون في مناطق بعيدة والتواصل معهم سطحي عبر الأسواق أو مواقع التواصل). ويبين الكاتب أن الشبكات ذات الروابط الضعيفة تنتشر من خلالها المعلومات أو السلوكيات بطريقة العدوى البسيطة وبسرعة كبيرة، لكنها ذات رسوخ هش ولا تستمر كثيراً، وكيف أن الشبكات ذات الروابط القوية تنتشر من خلالها السلوكيات بطريقة العدوى المعقّدة، وهي بطيئة لأنها تتطلب دعماً وتأييداً من عدة أطراف مقربين، لكنها حين تنتشر تكون أكثر رسوخاً واستمراراً.
ولتحقيق نشر السلوكيات المعقدة علينا فهم مجموعة من آليات اجتماعية تساعد في نشر هذه السلوكيات، وسبب ذلك هو أن اعتناق أو اتباع هذه السلوكيات يتطلب مخاطرة ما يزيد من اعتماد الناس على شبكات اجتماعية عديدة وقوية لاتباعها. وذكر الكاتب أربع آليات:
التكاملية الاستراتيجية: تزداد قيمة السلوك بعدد الآخرين الذين يتبعونه.
المصداقية: كلما زاد عدد الذين يتبنون سلوكاً ما، زاد تصديق الناس له.
الشرعية: كلما زاد عدد الذين يتبنون سلوكاً ما، تعاظم التوقع بأن الآخرين سيستحسنون هذا السلوك، ويقل خطر الإحراج أو العقوبة إذا ما تبناه.
العدوى الوجدانية (العاطفية): تزداد الإثارة المرتبطة بتبني سلوك ما كلما زاد عدد الذين يتبنونه.
وجوهر هذه الآليات هو أن انتشار السلوك عبر شبكات ذات روابط قوية ليس فقط تقليداً، بل هو إقناع في الكثير من الأحيان. مع الأخذ في الاعتبار أنه إذا كانت شبكة الناس مبنية على اختلافات كبيرة (دين، عِرق، طبقة)، فإن السلوكيات الجديدة إذا نجحت في الانتشار تبقى محاصرة في شبكتها حسب العِرق أو الدين... إلخ.
نموذج الإسلام: الإسلام لم يستخدم مصطلح "الشبكات الاجتماعية" بمفهومنا الحديث، لكنه أسس فعلياً لنفس الفكرة والمبدأ: فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة السرية (نشر السلوك في شبكة اجتماعية مغلقة)، ثم أمره الله بالجهر بالدعوة، وأيضاً انطلق من نفس المبدأ: نشر السلوك ضمن شبكة اجتماعية مغلقة وهي العائلة المقربة. قال الله تعالى ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] هذا أول أمر مباشر بالدعوة، وكان عبر الروابط الأسرية والعشائرية؛ فقد كان نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة أنه اعتمد على دوائر العلاقات الاجتماعية؛ فقد بدأ دعوته بأقرب الناس إليه: زوجته خديجة، ثم ابن عمه علي، ثم صاحبه أبو بكر، وأبو بكر بدوره دعا "شبكته": عثمان، الزبير، طلحة، سعد... ثم دار الأرقم بيئة مغلقة جمعت أول الصحابة، فكانت نواة مجتمع الدعوة.
هذا بالضبط ما يسمى الآن في علم انتشار السلوك: العدوى المعقّدة عبر الشبكات المغلقة. وفيما يلي بعض أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة:
قول النبي "بلغوا عني ولو آية" – رواه البخاري.
قوله لحامل الرسالة "فليُبلّغ الشاهد الغائب" – متفق عليه.
قولُه "الدال على الخير كفاعله" – رواه الترمذي.
دعوة لكل فرد أن يبلّغ في دائرته، سواء كان قريباً أو صديقاً أو جاراً. الرسول أسّس لمبدأ التناقل الشبكي للرسالة؛ الدعوة لا تتوقف عند من سمع، بل عليه أن يُبلغ من حوله، وهكذا تنتشر. ويحفّز بالأجر الأخروي على نشر السلوك والدين عبر التأثير الاجتماعي. لا يكفي أن تعمل الخير، بل انشره، دلّ عليه، اجعل غيرك يفعله. لا مركزية في التبليغ، بل كل مسلم هو نقطة نشر "العقدة المركزية لشبكة الأنا"، وكاسر لعتبة السلوك. وكمثال: أبو بكر الصديق، والطفيل بن عمرو، وأبو ذر الغفاري؛ بعد تعلمهم من النبي ﷺ نقلوا لأصحابهم، وكل واحد في أصحابهم ينقلها لأصحابه وهكذا.
عتبة السلوك الجماعية: مصطلح "عتبة السلوك الجماعي" هو النقطة التي يبدأ عندها الفرد في تبنّي سلوكٍ جديد، بسبب عدد من الأشخاص في محيطه الاجتماعي يفعلون هذا السلوك. بمعنى آخر، لن يغيّر الشخص سلوكه إلا إذا لاحظ أن عدداً معيّناً من أصدقائه أو معارفه قد تبنّوا هذا السلوك بالفعل.
بعض الناس يحتاج أن يرى شخصًا واحدًا فقط يفعل شيئًا ليقلّده أو يقتنع به. البعض الآخر لا يتأثر إلا إذا رأى الكثير من الأشخاص يفعلونه. في حملات التغيير الاجتماعي أو الدعوي، يحتاج السلوك للانتشار أن يمرّ بالسلوك الفردي (الأشخاص الكاسرون لنواة عتبة السلوك الاجتماعي) لكي ينتقل للسلوك الجماعي، ولا يكفي إقناع شخص واحد.
السلوك الفردي: يعتمد على القناعة الشخصية.
السلوك الجماعي: يتأثر بالشبكة الاجتماعية حول الفرد؛ كلما زاد عدد المتبنين، تجاوز الفرد “عتبة” اتخاذ القرار.
نموذج الإسلام:
مثال في الإسلام والدعوة النبوية، الصحابة الأوائل يعدون نواة كاسرة للعتبة. في مكة، لما أسلم عدد كافٍ من الصحابة وأعلنوا الإسلام، بدأت عدوى السلوك تنتشر. كما أن صلاة الجماعة هي تعزيز للعتبة والتكرار لتقوية السلوكيات والروابط.
مقاومة التغيير:
بعض السلوكيات أو الأفكار الجديدة تواجه مقاومة نشطة من المجتمع. في هذه الحالات، لا يكفي مجرد الاتصال أو التعرّض للفكرة، بل لا بد من شبكة دعم داخلي قوي تتيح للفرد تجاوز المخاطر الاجتماعية والنفسية للتغيير. بعض السلوكيات التي تعارض المألوف أو التقاليد تُقابل برفض وسخرية وحتى عقوبة. في هذه الحالات، العدوى المعقدة ضرورية جدًا. كما أن منصات التواصل ووسائل الإعلام والشخصيات المؤثرة لا تكفي وحدها لنشر سلوك مخالف للمجتمع. لا بد من بناء شبكات دعم محلية مغلقة (حيّ، مسجد، دائرة أصدقاء، حزب...). التغيير الناجح يبدأ من الداخل، والطريقة هي كما أشار الكاتب هنا لمصطلحي “البذر العشوائي” و”البذر المتكتل”: من خلال تجربة معقدة ملخصها أن البذر بنوعيه هو محاولة اختراق المجتمع من الداخل، ولكن البذر المتكتل أنجح وهو زرع كتل اجتماعية داخل الشبكات في حالة مقاومة التغيير، والبذر العشوائي فاشل وهو زرع أفراد متفرقين هنا وهناك داخل الشبكة الاجتماعية.
نموذج الإسلام:
البذر المتكتل هو الأنجح كما قال سانتولا؛ فالرسالة أو السلوك ينتقل عبر شبكات مغلقة، ذات روابط قوية وتعزيز اجتماعي. هذا ما اعتمد عليه الإسلام فعلًا لما تعرض لمقاومة التغيير من قريش، وكأمثلة تأسيس عدة بذور متكتلة، أهمها:
دار الأرقم: مثال واضح على شبكة مغلقة متكتلة بدأ فيها الإسلام.
بيعة العقبة: المسلمون من المدينة بايعوا، ثم نشروا الإسلام داخل عشائرهم.
الهجرة: بناء مجتمع جديد يقوم على روابط أخوة قوية.
الانتشار الإسلامي المبكر اعتمد على عدوى معقّدة ضمن شبكات تكتلية قوية، ولكنه جرب أيضًا نموذج البذر العشوائي المتمثل في الهجرة إلى الحبشة. لكن الهدف الأهم منها كان حماية حاملي السلوك الجديد (النواة الكاسرة للعتبة) أكثر منه دعوة، ومع هذا نجح الأمر مع قائد الحبشة. ونلاحظ أن الاتصال أو نشر المعلومات أو السلوك عن طريق العدوى البسيطة التي يقابلها في وقتنا التنظير عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية بصفة عامة لم يكن وحده كافيًا، بل كان لا بد من التأثير الواقعي من خلال بناء شبكة داخلية من المؤمنين الأوفياء الذين دعموا بعضهم بعضًا (دار الأرقم، الهجرة...). وأيضًا كان النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه النموذج؛ عاش بين الناس وتعامل معهم، فصار السلوك الجديد مجسّدًا أمامهم، لا نظريًا.
نشر التغيير داخل المؤسسات:
التغيير داخل المؤسسات لا يحدث بأمر إداري، بل عبر تكوين شبكات مصغّرة متفاعلة، يُعاد فيها إنتاج السلوك الجديد مرارًا عبر روابط الثقة والملاحظة، حتى يتشكل عرف داخلي لا يمكن تجاهله.
● التغيير لا يحدث بقرار واحد، بل عندما يتبنّى أفراد مؤثرون من أقسام مختلفة السلوك الجديد ويؤثرون على شبكاتهم الداخلية عن طريق العدوى المعقدة.
● العلاقات القوية داخل الفرق والمؤسسات هي الأكثر تأثيرًا.
● التغيير ينتقل ببطء عبر الشبكات ذات الروابط القوية، لكنه يكون أكثر استقرارًا.
مثلاً: زميل عمل يشاركك الرأي باستمرار سيكون أكثر تأثيرًا من إعلان داخلي عام.
● الكتلة الحرجة المحلية: التغيير يتطلب وصول عدد معين من الزملاء إلى نقطة التحول، “عتبة السلوك الجماعي” داخل القسم أو الفريق. عندما يرى الفرد أن عددًا كافيًا من زملائه قاموا بالسلوك الجديد، يشعر بأنه منطقي ومشروع وآمن.
● العدوى المعقدة: في المؤسسات، لا يكفي أن ترى شخصًا واحدًا يتغيّر؛ بل تحتاج إلى تعدد النماذج حولك لتقتنع وتتحرّك. أمثلة على السلوك المعقّد داخل المؤسسات: تغيير ثقافة الاجتماعات، تقبّل سياسة شاملة، الالتزام بنموذج جديد للعمل.
● الوسيط الشبكي: هو الشخص الذي ينتمي إلى أكثر من دائرة داخل المؤسسة (كأن يعمل بين الموارد البشرية وقسم التخطيط)، هذا الشخص يلعب دورًا حيويًا في نقل التغيير بين الأقسام
● نشر السلوك عبر شبكات محلية مغلقة:
بدلاً من البدء من "مركز القرار"، يبدأ التغيير من "قلب الفرق الصغيرة" التي تعيد إنتاجه داخليًا وتدعّمه.
● التكرار والملاحظة:
يحتاج الأفراد لرؤية السلوك الجديد أكثر من مرة، من أكثر من شخص، حتى يتحفزوا.
السيرة النبوية مليئة بهذه الاستراتيجيات: مقارنة مع نموذج النبي صلى الله عليه وسلم:
روابط الثقة: الصحابة في دار الأرقم.
الوسيط الشبكي: إرسال مصعب بن عمير إلى المدينة لنشر السلوك الجديد، وهو مرتبط بقلب الدعوة في مكة ومرتبط بالمدينة لينشر الإسلام فيها.
التكرار: خطب الجمعة، الأذان، الصلاة الجماعية، الحج... إلخ.
الكتلة الحرجة المحلية: إسلام سعد بن معاذ أدى إلى إسلام الأوس كلها.
العدوى المعقدة: الدعوة الفردية ثم الاجتماعية في مكة والمدينة.
تصميم الشبكات الاجتماعية:
هو إعادة تشكيل أو استخدام العلاقات الاجتماعية (الروابط بين الأفراد) بحيث تساعد على تسريع تبنّي الأفكار الجديدة، تقوية التحفيز الجماعي، تقليل الانعزال أو المقاومة.
المبادئ الأساسية في تصميم الشبكات:
السلوك المعقّد يحتاج إلى شبكات مغلقة داخليًا، مفتوحة خارجيًا؛ شبكات فيها روابط قوية في الداخل، لكن لها جسور تربطها بشبكات أخرى.
● شبكات مغلقة: الروابط بين الأشخاص قوية وكثيرة ومتكررة، وتساعد على تعزيز الالتزام والاستقرار، لكنها بطيئة في الوصول إلى الغرباء.
● شبكات مفتوحة: تتيح الوصول إلى أشخاص من خلفيات ودوائر مختلفة، تنشر المعلومات بسرعة، وضعيفة التأثير على السلوك المعقّد.
كيف تُصمم الشبكة لنشر التغيير؟
● بناء روابط ثقة قوية: تقوية العلاقات الشخصية في الدوائر الأساسية: العائلة الصغيرة والكبيرة، فرق العمل، الأصدقاء، المتطوعين، الأحزاب السياسية.
● خلق نقاط تَماس مع شبكات جديدة: تعيين وسطاء لديهم علاقات في أكثر من دائرة، وتنظيم لقاءات بين فرق مختلفة.
● استخدام التكرار الجماعي: جعل السلوك الجديد يُشاهد ويُمارس من عدة أفراد موثوقين في نفس الوقت.
● تعيين "نماذج سلوكية" مؤثرة: أشخاص يقتدي بهم الناس داخل كل دائرة، يشكّلون القدوة الاجتماعية.
● خلق سياق اجتماعي لنشر السلوك:
السياق الاجتماعي هو البيئة التي يشعر فيها الإنسان أن هذا السلوك آمن ومنطقي ومقبول اجتماعيًا، ويكون ذلك بـ:
مجموعات دعم، لقاءات دراسية، دوائر حوار تسمح بتكرار التعرّض للسلوك المرغوب، مما يعزّز تبنّيه.
الضغط الاجتماعي اللطيف: رؤية آخرين يفعلون السلوك الجديد يولّد شعورًا بوجوب اللحاق.
التأييد الجماعي الواضح: عندما يدافع عدة أشخاص عن سلوك جديد أمام المجموعة، يتم تثبيته كـ"معيار جديد".
نقل التجربة داخل الشبكات المغلقة: النجاح يكون أقوى عندما يبدأ في "دوائر ثقة" ثم ينتقل للخارج.
لعل أبرز نموذجين من الإسلام هما:
زرع الإخاء والعدل والإيثار داخل المجتمع من خلال أركان الإسلام الخمسة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأبرز مثال واقعي هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومجتمع الصحابة الأوائل في مكة، والمجتمع الإسلامي عمومًا.
ملاحظة:
الفصلان الأخيران تجنّبتهما لأنهما يحتويان على أفكار الماركسية الاقتصادية، وعلم الاجتماع التجريبي الدارويني، وأخلاقيات التصميم في تطبيق نشر السلوك.
لكن عمومًا، فيهما أفكار صحيحة مثل الدعم المالي، ويقابله في الإسلام "المؤلفة قلوبهم".
وأيضًا عندهم نظرة للحياة تحاول اكتشاف الطرق الجيدة للعيش.
إن هؤلاء الناس جميعًا يكتشفون أمورًا وأشياء سبقهم إليها الإسلام أو البشر قبلهم، لكنهم يغيّرون الأسماء فقط، ويعتقدون أنهم أعلم أهل الأرض.
والله سبحانه هو علاّم الغيوب، وأنزل لنا شريعة، مهما اتبعناها لن نضل
كتبه عبد النور الجزائري الناصري
يوم ١٥ /٢٠٢٥/٥